مؤتمر شركاء السودان، الواقع والتداعيات
أثناء دراستي للغة الفرنسية في إحدى الدول الأفريقية إلتقيت بشخصية أكاديمية فرنسية قالت لي لو سنحت لي الفرصة أريد توجيه سؤالان، الأول للإدارة البريطانية والأمريكية، أقول لهم: كيف بعد كل تلك العقود في السودان لم تنجحوا في فرض ثقافتكم ولغتكم في المجتمع السوداني؟ إن كنتم عاجزين فأتركوه لنا !، والسؤال الثاني أوجهه للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية أقول لها: ما الدور المناط لكم بالتحديد؟ وأين هو من الأزمة الخليجية المتصاعدة؟
شاركت السودان مؤخراً في مؤتمر شركاء السودان الذي نظمته ألمانيا بالشراكة مع الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، بحضور رئيس مجموعة البنك الدولي، والمدير الإداري لصندوق النقد الدولي، ورئيس بنك التنمية الأفريقي، وضم المؤتمر خمسة عشر وكالة ومنظمة دولية وأربعون وفداً دولياً، وهدف المؤتمر إلى دعم التحول الديموقراطي في السودان ودعم التعافي الإقتصادي، وأكدت فرنسا على لسان رئيسها إيمانويل ماكرون في نهاية مؤتمر شركاء السودان بإستضافة مؤتمر رفيع المستوى لإطلاق تخفيف الديون والسماح لإعادة الإدماج الكامل للسودان في الإقتصاد الدولي، وجاء مؤتمر شركاء السودان بعد إجتماع أصدقاء السودان الذي نظمته باريس في مايو 2020 .
مثلما يدرك الشارع السوداني أن المبادرات الدولية لإنعاش الإقتصاد السوداني ترتبط بالمشروطية السياسية فما تقدمه المؤسسات الدولية من قروض ومساعدات مرتبط بما تحققه الدولة من تقدم في مجال حقوق الإنسان والوصول للسلطة عبرصناديق الإقتراع وإن كان شكلياً، فهو أيضاً يُدرك أن القوى الدولية المتحكمة بعمل تلك المؤسسات لا تهتم حقيقة بمراقبة تطبيق الديموقراطية في الدول الأفريقية أو في دول الشرق الأوسط ، فهي في الواقع من يحول دون الوصول إلي الديموقراطية ناهيك عن التعرف على أبسط أبجدياتها لإستمرار ما يُراد له أن يكون .
ما كاد ينهي مؤتمر شركاء السودان أعماله حتى أعلنت باريس على عقد مؤتمر مقبل في أوائل العام القادم 2021 بالتعاون مع حكومة السودان ومجموعة اصدقاء السودان في فرنسا، وشخصياً لم يفاجئني الإقتراح الفرنسي الذي جاء متزامناً مع قرب تنفيذ الإستراتيجية الفرنسية في السودان التي طالما بحثت باريس عن أرضية لتنفيذها فلم تجد والتي جاءت ترجمة لرؤية فرنسية قديمة لم يدونها جاك فوكار مهندس إستراتيجية فرنسافريك في ملفات الكي دورسيه ولكن إقتضت الحاجة لإقتناصها ولو عنوة.
بدا الإهتمام الفرنسي بالسودان جلياً منذ ما قبل عهد حكومة الإنقاذ وتضاعف في عهدها، فالسودان جغرافياً يقع في المنتصف ما بين أهم المعاقل الفرنسية شرقاً جيبوتي الواقعة على باب المندب وخليج عدن، وغرباً أفريقيا الوسطى وتشاد، وبالرغم من وجود الإسلام والثقافة العربية في تلك المعاقل إلا أن باريس يقلقها تأصيل تلك الثقافة في مستعمراتها القديمة ناهيك عن الموارد الطبيعية التي تحظى بها أرض المقرن ومن هنا ولدت الإستراتيجية الفرنسية تجاه السودان الذي تراه باريس إما أن يكون الدعامة الأولى لتأصيل تلك الثقافة العربية الإسلامية والتي تراها باريس “مرعبة ومهددة” لوجودها وبالتالي سيتوجب وضع خطة طريق للتعامل مع الخرطوم، وإما أن يكون السودان المعقل الفرنسي القادم وبالتالي وجب إنتهاز فرصة الإهمال العربي للخرطوم ووقوعه تحت الحصار والعقوبات الأمريكية وإبداء التعاون معه تمهيداً لتشكيله ومن ثم تأهيله ليمارس دوره الذي سبقته إليه بقية المعاقل الفرنسية في أفريقيا.
تدخلت باريس عندما فرض الحصار الإقتصادي على السودان وذلك بفتح منافذ إقتصادية مع السودان فتطورت العلاقات التجارية بين البلدين، كما إستعانت باريس بالخرطوم في تسعينيات القرن الماضي عندما أرادات الإتصال بالجماعات الإسلامية في الجزائر تفادياً لنقل العنف إلى أراضيها، ودعمت فرنسا قرار رقم 1372 لرفع العقوبات الدولية عن السودان والذي جاء بعد تعاون جهاز الأمن والمخابرات السودانية مع المخابرات الفرنسية في تسليم أهم المطلوبين أمنياً والذي إستمرت مطاردته أكثر من عشرون عاماً ” إلييتش سانشيز” الشهير بــ ( كارلوس الثعلب) والذي كان يقيم في الخرطوم فتم ترحيله إلى باريس ومحاكمته، كما وقفت باريس حجر عثرة أمام قرار في مجلس الأمن ضد السودان على خلفية الوضع في دارفور، بل وقامت فرنسا بتنظيم قمة رؤوساء بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى تضمن عدم إيواء تلك الدول للمعارضة المسلحة أو السماح لها بممارسة أي نشاط يضر بإستقرار الدول الأخرى وذلك على خلفية الدعم التشادي للدكتور خليل إبراهيم وزير الصحة الراحل وقائد حركة العدل والمساواة ضد الخرطوم، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم تحددت الرؤية الفرنسية للسودان في قالب أمني عسكري حتى جاء مؤتمر شركاء السودان يونيو 2020 وأتاح للرؤية الفرنسية المزيد من الفرص والخيارات لتحديد أولوياتها للإستفادة من الجوار الجغرافي لمعاقلها شرقاً وغرباً، إلا أن ما يقلق باريس هو إنقلاب الخرطوم على المصالح الفرنسية بمساعدة واشنطن بإعتبارها اللاعب الرئيسي اليوم في الساحة السودانية وصاحبة التجربة والخبرة في دعم القيادات السياسية الأفريقية المناهضة لفرنسا في مقابل إسقاط النخب الأفريقية الموالية لباريس، وهذا بالطبع غير مُستبعد وستستخدمه واشنطن متى ما أقتضت الحاجة لذلك.
أما خليجياً، فدول مجلس التعاون الخليجي المشاركة في مؤتمر شركاء السودان ( دولة الإمارات، دولة قطر، دولة الكويت، المملكة العربية السعودية) تجتمع في نقطة واحدة وهي إنعاش الإقتصاد السوداني إلا أنها تختلف في رؤاها السياسية، فأبوظبي والرياض كان لهما دور في دعم مرحلة ما بعد البشير “مالياً ” ومشاركتهما في مؤتمر شركاء السودان جاء مُكملاً لدعم المرحلة الإنتقالية في مقابل ضمان التدفق العسكري السوداني لليمن وليبيا، وتعزيزاً للمصالح الداعمة للتواجد الإماراتي السعودي في السودان الجديد الذي بات يرى أن ذلك التواجد يحتاج لمضاعفة جهده لكسب ثقة الشارع السوداني الذي ثار بعد ثلاثون عاماً على كل من يجبره أو حتى يستميله للقبول بأمر واقع، ومن ناحية أخرى جاءت تلك المشاركة لقطع الطريق على أنقرة التي باتت تزهو شمالاً في ليبيا وتتطلع إلى ما هو أبعد من نفوذ في المتوسط، أما مشاركة دولة قطر فهي جاءت في سياق محدد، تدرك الدوحة أن حكومة الإنقاذ وإن سقطت إلا إن رجالها هم من يديرون اليوم زمام الأمور وهم ذات الرجال الذين كانوا وحتى عهد قريب يباركون مساعي الدوحة ودورها في المصالحة السودانية مع الحركات المسلحة في دارفور وهم أول من إستفاد من المنح والقروض القطرية التي تدفقت على السودان وإمتدت لجنوبه قبل الإنفصال وبعده، وهم اليوم ذات الرجال الذين يجدون حرجاً في العودة “علناً ” لسابق عهدهم في التعامل مع الدوحة ويبدو أن الدوحة تتفهم ذلك جيداً لذلك تركت كل ذلك جانباً وشاركت في مؤتمر شركاء السودان لتؤكد أنها لا ترغب بخسارة السودان ولن تسمح بمصادرة مصالحها في الخرطوم أياً كان توجه النظام القادم هذا إن لم تقم بمضاعفة مصالحها مستقبلاً معتمدة في ذلك على رصيدها في بعض المؤسسات السيادية السودانية، أما دولة الكويت فجاء دورها مكملاً لما بدأته في مسيرتها التنموية لعموم أقطار القارة الأفريقية منذ ستينيات القرن الماضي.
أتطلع كمواطنة خليجية أن تنتهي الأزمة الخليجية سريعاً ويكون التواجد الخليجي في الخرطوم بداية لعمل خليجي موحداً معززاً للمصالح الخليجية التي لابد أن تكون مجتمعه في تكتل خليجي جماعي يعززها بشكل يفوق وجودها منفردة، ويكون ذلك تمهيداً لتكامل خليجي نتوق إليه كمواطنين خليجيين، إلا أن إستمرار الخلاف الخليجي ينبأ بأن التصادم بين المحاور الخليجية سيكون سيد الموقف وعليه أرى أن السودان سيشهد المزيد من ذلك التصادم، وستحقق الحكومة السودانية مصالحها الخاصة من كلا المحورين، وسيجد رأس الحكم في السودان ( مدني كان أم عسكري) نقطة مشتركة بين القوى الدولية التي تدير تلك المحاور وسيصلون لمرحلة يكون فيها الإستغناء عن عروض وخدمات تلك المحاور أمراً وارداً إن لم يكن ملحاً، ولا أقول أن الخرطوم ستشهد حرباً بالوكالة أو أن تتحول السودان لساحة تصفية حسابات بين المحاور الخليجية كليبيا مثلاً، لأن السودان مُرتبط بالقرن الأفريقي وإستقراره هو إستقرار للرؤية الأمريكية في القرن الأفريقي والتي ترى أن ولادة القرن الأفريقي برؤية أمريكية لن يتحقق إلا عبر الخرطوم، فإستقرار السودان هي المهمة الأولى للقوى الدولية، ولكن كل ذلك لا يمنع القوى الدولية من الإستفادة من حالة التنافر الخليجي المشارك في مؤتمر شركاء السودان، وفي النهاية ستتحسن الأوضاع في السودان تدريجياً وسيتعافى الإقتصاد السوداني جزئياً ولن يتعافى كلياً إلا بعد إنخراط السودان في العملية التي يرادُ له أن يكون فيها .
أخيراً، تدرك القوى الدولية حقيقتان في السودان لا جدال فيهما، الأولى : أن أمام السودان طريقاً طويلاً وشاقاً لتكوين حكومة وحدة وطنية بالمفهوم الذي تخشاه تلك القوى والذي سيعيق تحقيق مصالحها مقابل ولادة سودان جديد ينتظره أبناءه، والثانية: أن إدارة الدولة السودانية ما زالت بيد رجال الإنقاذ ومن يواليهم وبالتالي إما ان تبدي الخرطوم موقفاً تكسب به ثقة المجتمع الدولي للمضي قدماً بمستقبل البلاد حتى وإن إستولى العسكر على السلطة، وإما أن تتعنت السودان في الخروج من عباءتها القديمة في بعض الملفات مما سيدخل البلاد في منعطف بالغ الدقة لا تملك الخرطوم الثمن لتدفعه.
المقال منشور بتاريخ 5 يوليو 2020 على الرابط التالي
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي